ايمن البحيرى مشرف
الجنسية : الهواية : المهنة : الدوله : الاوسمه : عدد المساهمات : 226 نقاط : 456 السٌّمعَة : 101 تاريخ التسجيل : 13/12/2009
| موضوع: خميس في بلاد العجائب الإثنين ديسمبر 28, 2009 1:14 pm | |
| خميس في بلاد العجائب
الحلقة الأولى
توقف خميس طويلاً قبل أن يرسل جواب البرقية التي وردته من أمه، ولكن حبه لها، وحرصه على إدخال السرور إلى قلبها، دفعه لأن يخبرها بأنه قادم بعد أيام.
عاد إلى البيت، وجعل يتفحص مجموعة من الصور حتى وقف عند صورته التي وضعت على الجواز قبل خمسة عشر عاماً، كان مقطب الجبين، عابس المحيا، فقد التقطت بعد إخفاقه في الحصول على الثانوية العامة للمرة الثالثة، عندما عزم على الرحيل إلى بلاد "الديزل" للعمل فيها في أي عمل.. ثم أمسك صورة تضمه وأمه، والتي التقطها قبل عام تقريباً في أحد المتنزهات، وراح يحدّق فيها ويتصور أمه العجوز على فراش المرض، وقد أقعدها كبر السن.. إنها كانت تأتيه في كل عام بطلب زيارة فتمكث عنده شهراً أو أكثر، ولكنها في هذا العام عجزت عن المجيء.. لكم كان يتمنى أن تشاركه حياته هنا بعيداً عن القرية ومعاناتها.
إنه ليكاد ينسى القرية وما فيها، إذ ماذا يمكن أن تفعل خمسة عشر عاماً في نفسه.. لقد حدث تغيير كبير بعد غيابه، فحتى اسم البلاد قد تغيّر من الجمهورية الفيحائية إلى (التقدراكية) "التقدم والاشتراكية".
* * *
جهّز نفسه خلال أسبوع واشترى ما يلزم من هدايا للأهل والأصدقاء، وتأكد من صلاحية سيارته للسفر الطويل، ومرّ على بعض أبناء منطقته من مدرسين وموظفين ممن يسافرون كل عام تقريباً ليأخذ صورة جديدة عن الوضع في بلاده، وليكون على معرفة بآخر ما استجد فيها! صحيح أنه يقرأ في المجلات والصحف، وبعضها من صحف المعارضة، ولكنه يريد أن يحيط بالأحوال عن طريق أولئك مباشرة!
* * *
الأول سأله: هل لك أحد من المعتقلين، قريب، صديق، ابن حارة، معارف؟
تذكر خميس أن ابن خالته هشام معتقل منذ عشرة أعوام، وهو في السنة الأخيرة في كلية الطب، وأن إمام القرية أخذ منذ سنتين، وقد أخبرته أمه أن مسجد القرية بلا إمام، وأن أهل القرية يذهبون إلى القرية المجاورة لحضور صلاة الجمعة؟!
الثاني: هل تعرف أحداً من المتنفذين؟
تذكر خميس أن المتنفذين الذين كانوا قبل خروجه قد تبدّلوا، وأن وجوهاً جديدة لابد أنها حلّت مكانهم.. ولكن أمه أخبرته في آخر زيارة لها أن "رفيق" زميله الذي رافقه في الرسوب ثلاث سنوات في الثانوية العامة أصبح ممن يشار إليهم بالبنان، فهو يقضي ويمضي –على حد تعبير أمه- وكأنه حسيب آغا أيام زمان، ولكن هل يبقى رفيق ذاكراً المعاناة المشتركة بينهما.
الثالث: أتعرف أحداُ في المخابرات، يمكن أن ينتظرك في المطار أو على الحدود؟
تذكر خميس أن زميلاً له يدعى "حسيسون" كان قد تطوع في المخابرات بتوجيه من ابن عمه النقيب "علي" وأنه –لابد- أصبح ذا مرتبة –اليوم-، ولكن أين هو؟ ومن يصله به؟؟
الرابع: (على استحياء) لما خرجت من البلاد هل كنت تصلي؟
وقبل أن يجيبه بادره بسؤال آخر: هل كنت مواظباً على الصلاة في المسجد، بحيث يبدو عليك مظهر التديّن الذي يوحي لكاتب التقارير أن يصفك باتجاه معين؟!
تذكر خميس أنه تأثر بأحد مدرسيه في أثناء المرحلة الإعدادية، فبدأ يصلي، وأنه عندما حصل على الشهادة الإعدادية تقدم إلى دار المعلمين ولكنه رُفض، ولم يبيّن له أحد شيئاً عن سبب رفضه، إلا أن أحد معارف الأسرة نصحه بالصلاة في المنزل، وإلى ضرورة الانتساب إلى منظمة "شباب المسيرة" فقد يكون هذا هو سبب الرفض! إلا أن هذا الأمر مضى عليه أكثر من عشرين عاماً.
وقع خميس في حيرة وارتباك، فصمم على ترك أسئلتهم، وأن يستفتي نفسه، فهو أدرى بحاله، فصلاته أيام زمان كانت متقطعة، وكثير من أبناء القرى يصلون، وهذه اللحية التي أطلقها هنا يستطيع أن يزيلها قبل سفره، وهو بالأصل لم ينخرط في أي اتجاه.. أما جواز سفره فليس عليه أية تأشيرة إلى الجمهورية الرافدية، ولا المملكة الحسينية، لا في تجارة ولا زيارة..
أما الصحف والمجلات التي تهاجم النظام، وحتى صحف المعارضة فهو يقرأها عند الأستاذ عمار، ولا يشتريها، ولم يجدها أحد في يده.
* * *
أحس بالارتياح، وهو يستلقي على سريره، ولكن صورة ابن خالته "هشام" برزت أمامه، ومعها سؤال كبير: أليس هذا قريبك وزميلك في الدراسة، فبماذا تجيب إذا سئلت عن علاقتك به؟
ابتلع ريقه، وأحس بعينيه تزوغان، ثم انتفض ليجلس على كرسي قريب، وهو يردد:
ليس لي علاقة به –ياحضرة المحقق- صحيح أنه ابن خالتي، ولكننا مختلفان تماماً، فأنا مثلاً أدخن وهو لا يدخن، وأنا أترصد بعض فتيات القرية، وهو لا يفعل ذلك، وهو يصلي وأنا لا أصلي إلا في المناسبات، وهو متقدم في الدراسة وأنا ****.
- ولكن هشام يقول غير ذلك!
- أبداً.. ليس صحيحاً.
- هل تواجهه بهذا الكلام؟
تلعثم خميس قليلاً، ثم تذكر أن هشاماً –على الأغلب- قُتل في السجن، أو انتهت حياته بسبب الأمراض المتفشية، فقد سُلّمت جثث لشباب كانوا أقوى منه وأمتن، وهو شاب ضعيف رقيق.
تشجع خميس، وصاح: أتحداه، وأتحدى من يثبت أن لي أية علاقة معه.
دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، انتبه خميس إلى نفسه، وقد أحس بالارتياح لهذه النتيجة، فعاد إلى السرير ليغط في نوم مليء بالأحلام والكوابيس.
الحلقة الثانية
امتلأت سيارته الصغيرة بالأشياء الثمينة والرخيصة، وانتهى من حزم الأمتعة.. ثم وقف ينظر إلى السيارة التي ذكرته بصورة رآها في إحدى المجلات اللبنانية للمهاجرين في أثناء الاجتياح الإسرائيلي، ولكن كان ينقصها أطفال صغار يركبون على ظهرها! قبيل المغرب بلحظات انتهى من كل شيء، ثم دخل إلى المنزل ينتظر المودعين، ومرسلي الهدايا والأغراض لذويهم.. على العموم كانت زياراتهم قصيرة، وأغراضهم مقبولة، وهو لا يستطيع أن يرد لهم طلباً طالما أنه مسافر عن طريق البر.
(1) يا سيد خميس هذه علبة فيها أسبرين ومضاد حيوي، وتحميلات سخونة، وشراب للسعال، ومسكنات للنزلات الخفيفة.
- على الرأس والعين.. ولكن..!
- أنت بعيد عن البلاد ولا تعرف شيئاً عن فقدان الأدوية..
(2) أستاذ خميس، بعض الدفاتر والورق المسطر لبيت أخي محمود.
- دفاتر؟! ورق مسطر؟ هل أنت تمزح؟!
- لا والله لا مزاح ولا شيء من هذا القبيل.. فالدفاتر مفقودة، والورق غير موجود حتى في الدوائر الرسمية.
(3) أسطى خميس! هذا كيس فيه خمسة كيلو سكر، كان أبو جاسم أوصاني أن أرسلها له.
- يا جماعة، هل أنتم متفقون على هذا المزاح؟
- أي مزاح، يا أبا جمعة، أنت لا تعرف ما يجري في البلد!.
(4) أخي أبا جميع، لن أكثر عليك.. أرسلت فقط كيلو من القهوة، وكيلو شاي، وعشر علب مناديل ورق..
جحظت عينا خميس وقال: مناديل ورق؟ لماذا؟ إن سعرها هنا وهناك لا يختلف؟!!
ابتسم الرجل ابتسامة حزينة، وقد أحس باتهام مهين وقال: يا سيد خميس، ليست القضية قضية اختلاف في الأسعار، ولكن القضية أن المناديل مفقودة.
- مفقودة!!
وقبل أن يتم كلامه قال الرجل: أذكر لك حادثة عايشتها بنفسي في آخر زيارة للبلد، فقد أصيبت ابنة أخي الصغيرة برعاف شديد، وأردنا نقلها إلى مستشفى المحافظة، فلم نجد علبة مناديل في أي دكان! فقيل إنها تباع في المؤسسة الاستهلاكية، فذهبنا إلى المؤسسة، فقال البياع: لابد أن تأتوا بورقة موقعة من مدير الناحية، وذهبنا إلى مدير الناحية وأحضرنا الورقة لنحصل على علبة فيها خمسة وسبعون منديلاً! لقد تغيرت الأمور كثيراً يا سيد خميس.
انفضّ المجلس، وذهب الجميع إلا واحداً بقي ينفث دخان سجائره، ويشرب كؤوس الشاي التي لم تتوقف! فهو لم يأت ليرسل شيئاً مع خميس، ولكن ليقدم بعص النصائح، لأنه عاد منذ أسبوعين، وقد سافر ورجع عن طريق البر.
التفت إليه خميس وقال: إيه يا كامل! كيف ترى فَهْمَ هؤلاء الناس؟ لقد ظنوا أن معي شاحنة كبيرة، فبدؤوا يرسلون ما يحلو لهم.
كامل: لا.. يا خميس، إن كل ما أرسلوه معك يحتاج إليه الناس في بلادنا التقدراكية!!
قال خميس ممازحاً: وأنت ماذا سترسل؟
كامل: لن أرسل شيئاً، لأنني عدت منذ أيام –كما تعلم- ولكن أريد أن أنصحك بعض النصائح، ولاسيما عندما تصل إلى الحدود.
- هات ما عندك..
- أولاً: لا تضع ما معك من المال بشكل بارز.
ثانياً: ادفع لموظف الجوازات مائة ليرة دون نقاش حتى يختم لك بالدخول، فهو لا يرضى بأقل من ذلك.
ثالثاً: ستمر على دوريات كثيرة للجمارك، فلا تجادلهم كثيراً وادفع لكل دورية خمساً وعشرين ليرة –على الماشي- وإلا أتعبوك.
رابعاً: لا تأخذ معك أي كتاب أو مجلة أو صحيفة.
وهنا قاطعه خميس: ولكن الحاج عمر أرسل معي كتاباً للشيخ عبد الواحد إمام القرية المجاورة لقريتنا!
صمت كامل ولم يجب، فلم ينتظر خميس طويلاً، وقال بلهفة: بماذا تنصح؟؟
كامل: أرني الكتاب.
وراح يتفحصه ويقلب صفحاته، وخميس ينظر إليه بقلق منتظراً رأيه، فهو يثق به.. فكامل أكثر منه ثقافة واطلاعاً، وقد كان مديراً للمدرسة الابتدائية، ثم إنه قريب عهد بالبلاد.
أخذ كامل نفساً طويلاً، وهز رأسه وقال: أظن أن الكتاب ليس فيه شيء، فالفتاوى النووية كان موجوداً في المكتبات التجارية، ولكن بغير هذه الطبعة.. توكل على الله، والله تعالى يحفظك ببركة العلم.. كنت أظنه لابن تيمية ولكنه للإمام النووي.. النووي لم ينزل اسمه بعد في قائمة المطلوبين..
ثم أتبعها بابتسامة مريرة، وأشار إلى لحية خميس: وهذه اللحية؟
خميس: (دون تردد) سأزيلها.. سأزيلها صباحاً قبل أن أسافر.
كامل: أعانك الله.. وإن شاء المولى تسافر وتعود بالسلامة.
الحلقة الثالثة
وصلت السيارة إلى نقطة التفتيش على الحدود، ليقف خميس في طابور طويل، ويركن سيارته جانباً..
كان أثر السفر والتعب بادياً عليه، فهو لم ينم يوم أمس إلا سويعات قليلة.
أخرج مائة ليرة –كما أوصاه كامل- وأخفاها داخل الجواز، وبعد مضي ثلاث ساعات وصل إلى النافذة، ومد يده إلى الموظف الذي أرجع له الجواز مباشرة، مع عبارة سريعة: لازم تنتظر أكثر!
لم يستطع خميس أن يسأله عن السبب، فالذين خلفه كانوا أكثر منه تضايقاً وانتظاراً.. فانسحب ذاهلاً، ووقف جانباً يقلب صفحات الجواز؟! فمائة الليرة موجودة!! إذاً لماذا أعاد الجواز؟ ولماذا هذه العبارة الخشنة؟
التفت حوله فوقعت عيناه على أحد المسافرين، وهو يهم بركوب السيارة بعد أن انتهى من الإجراءات.
- يا أخ.. يا سيد..
- خير.. تفضل.
- لو سمحت..
واقترب منه، وهو يحاول أن لا يراه أحد:
- قل لي.. الله يخليك، ماذا أفعل؟ لقد أعاد الموظف إلي الجواز، وقال لي لازم تنتظر أكثر..
ابتسم الرجل وقال له: وضعت البخشيش في الجواز؟
- نعم..
- كم وضعت؟
- مائة ليرة.
- هذا هو السبب، فنحن قبلك وقعنا فيها، انتظرت أربع ساعات مع الأولاد في هذا البرد القارس، لأفاجأ بأن البخشيش صار مائة ريال!
صاح خميس: مئة ريال!! يعني عشرة أضعاف؟ لا.. لا.. لابد أن أراجع المسؤولين.
قال الرجل: لا تتعب نفسك، لقد جربت قبلك، فقال لي رئيسه المباشر: إذا ما عجبك فانتظر.
فانتظرت.. ثم مر بي موظف آخر ليهمس في أذني:
- ما في فائدة من الانتظار.. ادفع بالريال حتى يمشي الحال..
ودفعت..
خميس: دفعت مائة ريال؟!!
تركه الرجل في حيرته وارتباكه، وامتطى سيارته متوغلاً في بلاد العجائب؟!!
لم ينتظر خميس طويلاً، حتى استبدل مائة الليرة بمائة ريال، وعاد ليقف في آخر الطابور لأكثر من ساعتين ونصف.. ودفع الجواز، وهو يخشى أن يكون السعر قد ارتفع في هذه البورصة الحدودية.
أمسك الموظف بالجواز يقلب أوراقه، فوقعت عينه على قطعة من ذات مائة الريال.. فابتسم دون أن ينظر إلى خميس وقال مهمهماً: ماشي..
* * *
أنهى خميس جميع الإجراءات، وجاء دور التفتيش، فتذكر أن ليس معه شيء يثير الانتباه سوى كتاب الحاج عمر، ولكن كامل طمأنه بأنه كتاب عادي جداً..
فلم يكد ينتهي، ويهم بركوب السيارة، حتى فاجأه أحد العناصر يدعوه لمقابلة النقيب!؟؟
لا يستطيع خميس أن يتجاهل هذه الدعوة، ولكن كامل لم يذكر له شيئاً عنها!!
نظر النقيب في وجه خميس، ثم سأله بهدوء مفتعل: شو جايب معك؟؟
عدد له الأغراض والهدايا، وذكر اسم الكتاب وهو يحسب أن النقيب سيطلب منه إحضاره، ولكنه لم يعره أي انتباه، فاطمأن خميس قليلاً، وبدأ وجهه يستعيد لونه الحقيقي.
أعاد النقيب السؤال بصيغة أخرى وفي همس رقيق: شو جبت لنا معك؟
لم يعد خميس محتاجاً إلى توصيات كامل التي لم تكن كاملة، فأنزل يديه بهدوء يخفيهما عن نظر النقيب، وخلع ساعة يده التي اشتراها قبل أسبوع، ثم وضعها في جيبه، وحاول أن يرسم على شفتيه بسمة ارتياح.. ثم دفعها للنقيب قائلاً: ما في شي على قد المقام.. ساعة يد سويسرية، آخر ما نزل إلى السوق.
ابتسم النقيب، وهو يحدق النظر فيها قائلاً:
- أنا قلت إنك ما بتنسانا..
ثم ضغط على زر، فدخل العنصر.
- رعد! لا تؤخروا السيد خميس، كل شيء معه رسمي.
- حاضر سيدي..
وخرج خميس وهو يتنفس الصعداء..
الحلقة الرابعة
انطلق خميس بالسيارة من نقطة الحدود، وهو يحمد الله على هذه النتيجة.. صحيح أنه فقد مائة ريال، وساعة ثمينة وتأخر قليلاً، إلا أن أعضاءه ما تزال سليمة، ولم يفقد شيئاً منها! وكذلك لم يسمع كلمة نابية، ولا فقد شيئاً من الأمانات المرسلة معه..
كانت اللوحات الفوسفورية تلتمع تحت أضواء السيارة، فيتابع قراءتها ليخفف عن نفسه من وحشة الطريق، وقد لفت نظره ثلاث لوحات كانت أكثر بروزاً من غيرها!
"بالروح، بالدم نفديك يا خابز"
"ألف تحية للقائد ناسج الحصيرة".
"ولو أن خبزاً في السحاب لنلتَه وليس عجيباً أن تُسمّى خابزا"
استعرض خميس الشعارات التي كانت قبل سفره، فلم يذكر أن من بينها تكريم الخابز وتبجيله، فراح يبحث عن العلاقة بين الوطن والخابز، ويقدح زناد عقله حتى كاد يصيح من شدة فرحه: وجدتها.. وجدتها..
فعن أي شيء تفتقت عبقرية خميس، وإلى اي شيء توصل؟!!
ابتسم خميس ابتسامة المنتصر، العارف قدر نفسه، وحدة ذكائه، وأحس بشيء من الاسترخاء وهو على مقود السيارة.. فبعد الآن لن يسأل عن كل شيء استجد في البلاد، طالما أنه يملك ذهناً تحليلياً يستنتج الأمور ويحللها.
فاليابان التي تعيش قفزة صناعية جبارة، تقدر المعلم، وتعتبره رمزاً لباعث النهضة فيها، وبلاده التقدراكية تعيش في ثورة ولابد أن يكون خابز هذا رمزاً من رموز حل أزمة الخبز؟!
* * *
فيما كان خميس مرتاحاً لهذه النتيجة لمعت لوحة جديدة لم يمر على مثلها من قبل.
"التقدراكية قلب العشيرة النابض، بلد الحرية والمساواة والمواطنة الحقة، وكرامة المواطن من كرامة الوطن".
قرب اللوحة وقفت دورية للجمارك، جعلت تشعل المصباح اليدوي وتطفئه إشارة للتوقف.
أوقف خميس السيارة، وترجل منها ليفاجأ بثلاثة عناصر:
- من وين جاي أبو الشباب؟
- من بلاد الديزل.
ابتسم رئيس الدورية ونظر إلى أحد المرافقين وقال: صيدة ثمينة، يا جورج.
كان خميس مصمماً ألا يدفع أكثر من خمس وعشرين ليرة مهما بلغ الأمر.
- معك شيء ممنوع؟
- أبداً..
- ما في هيك، هيك..
خميس: فتشني لتتأكد بنفسك، وقد فتشوني على الحدود.
رئيس الدورية: طيب، ما في شي للشباب (وأشار إلى عنصريه)؟
أخرج خميس القطعة ذات الخمس والعشرين ليرة، وكبسها بيد رئيس الدورية، فأخذها وقال: انقطعنا من السجائر منذ ساعة!
فهم خميس أنهم يريدون سجائر أجنبية، فمحطة الوقود قريبة منهم، وفيها دكان لبيع السجائر، فأخرج من سيارته ثلاث علب من سجائر "كنت" وقدمها لهم، وانطلق لا يلوي على شيء.
* * *
أحس بالتعب الشديد، والنعاس يداعب جفنيه، ولكن ما هي إلا ساعة حتى يصل إلى القرية..
على أبواب القرية لم يتغير في طريقها شيء يلفت النظر سوى كثرة الحفر التي تطلبت من خميس أن يهدئ السرعة، وقفت دورية مسلحة، قطعت الطريق بوضع بعض البراميل؟!!
خشي خميس أن يكون أخطأ في الطريق، ولكن صوتاً ما زال يذكره صاح من خلف أحد المرتفعات الصغيرة: قف.. يا خميس.. أطفئ الأنوار.. وترجّل..
تذكر خميس أنه صوت عبد الحميد ابن المختار الملقب "بالمفعوص" لدمامته وقصره.
فقال: يا مفعوص، طالما أنك عرفتني فكيف تستوقفني.
صاح المفعوص: هذي أوامر قيادة الفرع.. لو مرّ المختار في آخر الليل لاستوقفناه للتفتيش.
اقترب المفعوص من خميس، وتعانقا، فقال له معتذراً:
- لا تؤاخذني فإن القطر يخوض معارك شرسة ضد الإمبريالية، في الداخل والخارج، فنحن نفتش داخل القرية وخارجها..
قال خميس: كيف عرفت أنني قادم اليوم؟
قال المفعوص: أخبرتني أمك بذلك فخرجت في الدورية حتى لا يؤذيك أحد من الرفاق.
فأشفق عليه خميس وناوله علبة محارم كان يستعملها في الطريق، وعلبة سجائر كانت في جيبه، فتناولهما المفعوص شاكراً على استحياء، وتابع خميس طريقه.. | |
|